• 2022-03-22

لِمَ عُنِي علماؤنا بالرياضيات 2/1

في القرون الوسطى كان الغرب يرزح تحت عبودية رجال الدين، ويقبع في ظلمات الجهالة، وكان العِلْم التجريبي محرَّما عليهم، وكان العلماء يعلَّقون على حبال المشانق، أو يحرَّقون أمام الملأ، وكانت مؤلفاتهم العلمية تُحرَق، وفي أحسن الحالات تصادَر ويحرَّم تدريسها وقراءتها، وقد قيل: إن محاكم التفتيش حكمت أحكاماً مختلفة على تسعين وثلاثة وعشرين ألف عالم (23090) في غضون ثمانية عشر عاماً (من 1481م حتى 1499م)! فشاع التخلُّف وساد المجتمع الغربي الظلم والظلام على ما يشهد به تاريخهم، الذي سجل مَصارع علمائهم بسلطة بابوية نافذة من الكنيسة التي اتَّهمتهم بالهَرْطَقة والزَّنْدقة وضعف الإيمان:
فأُعدِم ويليام تيندال سنة (1538م) شنقاً ثم حرقاً!
ولقد حورب العالم الشهير (نيكولاس كوبرنيكس) سنة (1543م) بسبب نظرياته العلمية، وقررت الكنيسة حظْر كتابه عن دوران الأجرام السماوية.
وقتل (توماس كرانمر) حرقاً سنة (1556م).
وأعقبهم العالِم (جيرانو برونو) مكمل نظريات (كوبرنيكس) فكان مصيره الإعدام حرقاً سنة (1600م).
وحكمت الكنيسة على جاليليو بالإقامة الجبرية في بيته إلى أن يموت؛ بسبب نظرياته العلمية! فتوفي سنة (1642م).
في ذلك الحين كان العِلْم عند المسلمين يتقدم بتسارع كبير، مدعوماً بتوجيهات الإسلام، ومدفوعاً برعاية الحكام والأمراء والأعيان؛ ولذلك زخرت الحضارة العربية الإسلامية بطائفة عظيمة من العلماء المسلمين في مختلف حقول المعرفة، فأضاءوا الدنيا بنشر علومهم، سواء أكان شيوع علمهم في عصور قوة الدولة الإسلامية أم في مراحل ضعفها وتفَرُّق أهواء سلاطينها وأمرائها، وسواءَ - في ذلك - أكانت عنايتهم بعلوم الدين أم بعلوم الدنيا، لأن الثانية - مثلها مثل الأولى - نشأت من أجل التفَكُّر والتدَبُّر والنظر في أحوال الناس ومعاشهم، وتحقيق مصالح دنيوية وأخروية، وبذلك اتَّسعت عندهم حقول العلم والمعارف الإنسانية. وقد حملهم على ذلك إيمانهم بوجوب السعي في الطلب، ووجوب نشْر ما اكتسبوه من العلم. بيْد أنهم لم يقتصروا على ما أخذوه وتعَلَّموه، بل دأبوا على توسعة ما تلَقَّوه بشرح كتب السابقين تارة، وبتطوير محتواها تارة أخرى، بل بابتكار علوم جديدة، كان لهم قصَب السَّبْق في اكتشافها؛ خدمة للبشرية.
وقد كان السَّبْق في التأليف لعلوم الشريعة كالتفسير والحديث وما يتعلق بهما من علوم كثيرة لم تكن معروفة عند العرب. ولَما كانت الشريعة بلغة العرب، انصرف جُلُّ اهتمامهم بعلوم العربية: نحواً وصرفاً وبلاغةً ودلالةً وشعراً، فكثرت المصنَّفات في هذه الحقول كثرة بالغة.
ولم تلبث العلوم التجريبية والرياضية أنْ شاعت، فحرص عليها العلماء، وكثرت فيها التصانيف. وقد نال علم الحساب والرياضيات حظاً واسعاً من التأليف في عصور مبكِّرة؛ وذلك لارتباطه الوثيق بعِلْم الفرائض والمواريث وحساب مواقيت الصلاة، فضلاً عن أهميته في فهْم مقادير الزكاة، ومعرفة الأشهر؛ للصيام والحج والأيام البِيْض التي يُسَن فيها الصوم، ولهذا يوجِّه القرآن الكريم إلى معرفة عناصر الزمن وحركة الكون: ليلاً ونهاراً؛ لمعرفة حساب الشهور والأيام والساعات، يقول تعالى: "هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً لتعلموا عدد السنين والحساب" (سورة يونس/ الآية 5)، ويقول: "وجعلنا الليل والنهار آيتين فمَحَوْنا آية الليل وجعلنا آية النهار مُبْصِرَة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب" (سورة الإسراء/ الآية 12).
وكان الخليل بن أحمد الفراهيدي - رحمه الله - (المتوفَى سنة 170هـ) من السَّبَّاقين إلى التأليف في بعض العلوم المهمة للمسلمين، فقد كان لغوياً، نحوياً، صرفياً، رياضياً، فلكياً، عَرُوضياً (أسس علم العروض). وكان علم الحساب يشغلُه كثيراً، حتى قيل إنه تُوُفِّي بسببه؛ فإنه يُفهم من روايات مُصَنِّفي التراجم، أنه كان يفكر في معادلة رياضية سهلة يفهمها مَن ليس له علم بالفرائض (المواريث)؛ حِفْظا لحقوقه. روى الإمام العلَّامة شمس الدين الذهبي - رحمه الله - في كتابه النفيس (تاريخ الإسلام) سبب وفاة الخليل أنه - رحمه الله - كان يقول: "إني أريد أن أعمل نوعا من الحساب تمضي به الجارية إلى القاضي، فلا يمكنه أن يظلمها. فدخل المسجد وهو يُعمِل فكره فصدمته سارية، وهو غافل فانصرع، فمات من ذلك". وليس هذا بعجيب فربما جرى نزيف داخلي في دماغه العظيم أفضى به إلى الوفاة رحمه الله.
وقد عُرِف كثير من الفقهاء والأصوليين بتفوُّقهم في الرياضيات، فمثلاً قيل عن أبي علي الحسن بن زياد - (المتوفى سنة 204هـ) من أصحاب الإمام أبي حنيفة - رحمهما الله - إنه كان له من البراعة في علم الحساب ما لم يكن لغيره.
وكان عبدالقادر بن علي بن شعبان، الحنفي العوفي (المتوفى سنة 892هـ) فرَضِياً، حاسباً متميزاً في الفرائض والحساب. قال الذهبي: إنه كان "ممن تقدَّم في الفرائض والحساب، وصنَّف فيهما، وأقْرَأَهما الطلبة". وذكر ابن إياس الحنفي: أن ابن شعبان كان علّامة في الفرائض.
وكان العلاّمة محمد بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن عبدالصمد البجالي المغربي (المتوفى سنة 864هـ) عالماً فاضلاً، بارعاً في علوم وفنون كثيرة منها: العربية، والمنطق، والميقات، والحساب، والجبر والمقابلة، والمرايا والمناظر وغيرها كثير.
هذا ولسوف - نقف في الجزء الثاني من هذا المقال - على طائفة أخرى من هؤلاء العلماء بمشيئة الله؛ بغية تأكيد عناية المسلمين بالرياضيات والعلوم البحتة، وتأكيد أسباب هذه العناية.

آخر أخبار أ.د. علي محمد نور المدني

  • سعادة الصحبة

    2022-10-17

    يسعدك توفيق رب العالمين بصحبة الصالحين الراغبين عن الشهرة والوجاهة، العازفين عن قبول المديح والثناء، المقبلين على الدعوة بخُلُقهم الحسن. كذلك كان الشيخ الجليل الوقور عبدالرحمن الجودر رحمه الله. كانت صحبتي إياه نفيسة من النفائس استقرت في مكنون النفس. ...

  • في الحض على تعلُّم العربية وإعراب القرآن وذم اللحن - 2

    2022-08-19

    هلَّ على العرب نور الإسلام، فآمنوا به، وحملوه إلى الناس، واستقبله الأعاجم مؤمنين به، فوقعت المخالطة والمصاهرة بينهم، فتداخلت الألسُن، وشابت العربية ألفاظ وتراكيب أعجمية. ولما كان العرب قد خالطوا الأعاجم بعد دخولهم في دين الله أفوجاً تأثر بعضهم بهم فو...

  • في الحضِّ على تعلُّم العربية وإعراب القرآن وذم اللَّحن - 1

    2022-07-18

    كان الهدف من نشوء علم العربية، وتأسيس قواعده، وشيوعه، والتأليف فيه منذ نهاية القرن الأول الهجري هو الحفاظ على اللغة، وفهْم مقاصدها؛ لفهْم معاني كتاب الله، واستيعاب مقاصد الشريعة، فنشِط العلماء - بهمة بالغة - في تصنيف كتب النحو والصرف، والبلاغة، وفقه ...

  • لِمَ عُني علماؤنا بالرياضيات 2/2

    2022-04-23

    تقدَّم في الجزء الأول من هذا المقال ذكر مجموعة من علماء الرياضيات، وليس مقصودنا حصْر علماء الإسلام المهتمين بالرياضيات والعلوم المختلفة، ولكن حسبنا الوقوف على طائفة أخرى من الأمثلة؛ ليتبين منها أن منطلق اهتمام علمائنا بالرياضيات - (ابتداءً من أهم فرو...

  • أستاذ وأستاذة

    2021-12-16

    ما انفك مجمع اللغة العربية يبذل جهودا عظيمة لتخليص العربية من الشوائب التي تعلَقُ بها منبعثة من عدة أسباب، ليس ههنا مقام عرضها، ويسعى المجمع إلى حل المعضلات، وينظر في كل لفظ طارئ من المشكلات؛ حرصا منه على أن تواكب العربية العصر بمستجداته الدائمة. ...